رف من الحياة

للحديث بقايا .. من زمن آخر

في زمن شاخت فيه ذائقة القريض و انطفأ فيه وهج أصالة الشعر العربي بعد أن بدأ يفتقر إلى أركانه الحقيقية  وقعت عيني على قصيدة للشاعرة رفيف مسملي ولا أدري من أين ترعرعت هذه الروح الفياضة بالنغم الأدبي الباعث من الروعة ما لا حد له.

ناديتُ ويحكَ ماسمعتَ نِدايا
فجررتُ خَطْوي مثقلاً بأسايا

ومضيتُ أنحتُ في الصخورِ معانياً
كم صوَّرتْ للعابرين َحكايا

ودنوتُ أرسمُ في الرمالِ ملامحاً
وأصوغُ منكَ أساوراً ومرايا

َفكأنما قطعُ الحياةِ تكسَّرَت
فتحوَّلتْ مدُنُ الزجاجِ شظايا

والريحُ من حولي تعانقُ وحشتي
فتحيلُ أنقاضَ الحواضرِ نايا

فيلوذُ كُلِّي حينَ تُهْرقُ أدمعي
بمعينِ حُلْمٍ لا يزورُ سوايا

فعلىٰ سبيلِ البؤسِ كنتَ مُتَيَمِي
وعلى سبيلِ الموتِ أنتَ شقايا

بلْ كلَّما غيبتُ ذكركَ عن فمي
ألفيتُ سَهمَك موغِلا بحشايا

فتّشتُ فيكَ عن الوصولِ تموجُ بيْ
خدعُ السرابِ وخِلْتُهُ مَرْسَايا

فكتبتُ للوعدِ القديمِ رسالةً
تلقي علىٰ الأطلالِ بعضَ تحايا

فَتضرَّمتْ غُصَصُ اليراعِ كجمرةٍ
أردتْ ملايينَ الحروفِ ضحايا

فيما تبادلَ رِفقتيْ أَنْخَابَهم
أهديتُ للشرفاتِ جُرحَ مسايا

ورحلتُ والمطرُ الغزيرُ وحسرةٌ
وشوارعٌ ماطابَها ممشايا

فإذا البحارُ تعاركتْ وسَفِينَتي
وإذا السنينُ تقاذفتْ شكوايا

سأضمِّدُ الوجعَ البغيضَ بخِرقةٍ
فاتبعْ هــواكَ ؛ وللحـديث بقايا

يظهر أن الشاعرة شاعرة الزهد فإنطلاقاتها في سرد مطلع القصيدة  وعلامات الترقيم في كل بيت نرى علامة الوقوف النقطة كأنه يأمرنا بالوقوف لحظة للتفكر والتأمل في أحرفها الجميلة و القصيدة قمة في الجمال و الروعة خرجت الشاعر فيها من كونها أنثى وأنغمست إلى آخر كقلب يراود نبضه.

ناديتُ ويحكَ ماسمعتَ نِدايا
فجررتُ خَطْوي مثقلاً بأسايا

ومضيتُ أنحتُ في الصخورِ معانياً
كم صوَّرتْ للعابرين َحكايا

عادة المرأة تقول مللتك ولكن هنا  إختصرتها بقول: ناديت بعدها قالت ويحك (في اللغة ويح يعني ويل إذا ما جمعت مع ضمير مخاطب أو غائب لكن هنا جمعت لذا كانت للجانب الإيجابي )

المرأة مخلوق عجيب جميل حينما تقول الكلمة لمن تحب وأخص كلمة العتاب واللوم  فهي أحيانا تلوح بالفراق لكنها  تريد العكس تريد من الرجل أن يحتويها مهما كانت ظروفه ربما لا تنتبه لما يقاسيه لكنها وضعتنا في خيار جديد بعد أن لم يسمعها و يضغي إليها 

فجررت خطوي مثقلا بأسايا

الملاحظ أنها تكلمت بتاء الفاعل مما يأكد أنها لازالت تستجدي عودته حيث لو أنه يكرهها أو لا يريدها لقال أي قول وأجاب النداء إن كان جارحا

الشاعر عجيبة لم تقل سأمضي بالفعل المضارع. لا جاءت بالفعل الماضي وكأن الحبيب هنا أراد أن يصب صمته وتجاهله على الحبيب وتهول الأمر من أنها انتقلت من مرحلة النداء  إلى المناجاة..

ودنوت أرسم في الرمال ملامحا
وأصوغ منك أساورا و مرايا

دائماً الملاحظ في النساء عندما تبتدئ بالشكوى فإنها لم تسكت  و هنا يأتي دور الخيال المتعقل الممشوق بالرسم على طبيعة كالرمل والإلهام ومخيلة ما صوغته بأساور و هدايا

و ما هي إلا صورتان وتنفجر الشاعرة مافي جعبتها

فكنما قطع الحياة تكسرت
وتحولت مدن الزجاج شظايا


الطريف في الأمر في مقدمة للقصيدة بالديوان تصف الشاعرة بأن محبوبها لا يستجيب و هي تتسلق النداء  للوصول له (الكل يعرف ظروف عدم الإصغاء لكن هنا تقول ما سمعت وكأنها تعتذر له عن تجاهله مع علمها بما حجب نداءها عن مسمعه)

والريح من حولي تعانق وحشتي
فتحيل أنقاض الحواضر نايا

الشاعرة هنا تسترجع مرحلة أخرى بعد تلك المدن وتستمد عن التجربة التي قاستها للوصول و التجربة الأخرى في تحملها و صمتها عن محبوبها الذي لم يلبي ذلك

لم يتكلم المحبوب بأي شيء بل فعل كما هو عادة الرجال و ليس كل الرجال فالكلام للمرأة و الفعل للرجل لكنها تقول :

فيلوذ كلي حين تهرق أدمعي
بمعين حلم لا يزور سوايا

تصف حالة الصدمة من الداخل فأخبرتنا بما مرت به في مقدمتها و ما ستخبرنا به لاحقا مستدراة عطفنا عليها

فعلى سبيل البؤس كنت متيمي
وعلى سبيل الموت أنت شقايا

تصف وتقارن ما كانت به في الحالتين

و هي التي لا تستطيع النسيان أو التناسي لكنه أردت أن تخبرنا بأنها أمضت وقت طويل و هي تناجيه وما ازال الأشياء التي اكتسبها صبرها من الجراح الموغلة

فتشفت فيك عن الوصول تموج بي
خدع السراب وخلته مرسايا

الآن تشبه العوامل الخارجية التي نتوخاها بأنظارنا أن نعانقها بخيالنا

فتشت فيك عن الوصول حيث أفتقدت وصولي

وبقيت دربا ً بلا عنوان

و تصف الذكريات المؤثلة اي الوقوف على الأطلال  ( التحايا )

وما في اليراع سوى جمرة تغض أي لا وجود لأي مفر فالفعل مهلك في الكتابة لا ينجو فيه شيء .

تخبرنا الشاعرة بأنها لم تكن ترى شيئاً فكان المطر الغزير و تنتعل خيبة الأرض  أو لا تسير بالمركب  أي الموطئ أو الأرض الصلبة

  فإذا البحار تعاركت و سفينتي
وإذا السنين تقاذفت شكوايا

الشاعرة تصبر نفسها هنا كأنها تريد أن تحسم النهاية بعد نهاية البيت الذي بإذا

وتخبر الشاعرة بأنها لن تترك جرحها ينزف فأنينها لن  يمنعها من ذلك

  

(جوهر الحب أن نبقى نهتم لمن نحب حتى مع كل أخطائهم)
حتى هذا البيت الكل يقول بأنها سوف تنساه  وتنسى كل ما حصل لكنها تقول :

فاتبع هواك .. و للحديث بقايا

فاتبع هواك
حالة تعتري الشخص نتيجة موقف معين تجعلة يفقد توازنه ويترك ماهو عليه من مبدأ إما ضعفا أو خوفا أو حبا أو إكراها ..

حتى المحبوب في إعتقادي الشخصي إعتقد أنها أبادت كل ما بينها وبينه وسوف لن ترجع له

لكنها اختتم البيت بإستعمال الزهد الذي ذكرته في المطلع هي لا يهمها الا أن تضمد الجرح مؤقتا طالما أنه يتبع هواه
ونحن لا يهمنا ما إذا سيعود في الواقع 
مع أنه في إعتقادي الشخصي أنه لا وجود للكبرياء في الواقع بين المحبوب وحبيبه لكنها فتحت بابا جديدا لقصة شعرية مدهشة بقولها ""وللحديث بقايا"

مواضيعنا الجديدة

هكذا يبدو (الحكير)

بات من الضروري جذب الشباب للانخراط في المهن المختلفة كون المستقبل للفئة العاملة المهنية المؤهلة على استيعاب مقومات التقنية و أدواتها، فجميع...