من أروع ما كتب الرائع عبدالسلام اليمني في مقال قديم أترككم مع المقال
"جازان" تكشف عن ساقيها 1 من 2
تفاصيل النشر:
المصدر: الحياة - طبعة السعودية
الكاتب: عبدالسلام اليمني
تاريخ النشر(م): 17/3/2009
تاريخ النشر (هـ): 3/20/1430
منشأ:
رقم العدد: 16783
الباب/ الصفحة: 14 - وجهات نظر
< ما الذي فعلته جازان بي؟! وكيف صار لهذه المنطقة الموصومة بالتخلف والآلام والشكوى والمرارة والشرود الذهني أن تصنع لنا تاجاً من الجمال وأجنحة من أناشيد الأحلام والأمل؟ وكيف استطاعت أن تحافظ على عذريتها ودلالها ومنجمها السحري؟ ومن أي فاكهة تمددت عروقها لتصيب أهلها بعصير الكرم والطيبة والموهبة والإبداع؟ ومَنْ تلك الشخصية العبقرية التي أعادت اكتشافها من جديد، وأعادت إليها جمال الروح بعد خرابها، ونور الحياة بعد ظلامها؟ ومَنْ الذي حوّل حزن الصراخ إلى سعادة العقل وحسن التدبير؟
قبل حوالي عشر سنوات كنت زائراً على عجل ورأيتها من أول منظر متلبّسةً بتهمة التخلف فقررت العودة سريعاً وعدم البقاء، وفي هذه الزيارة شاهدتها محاطةً بأدلة وبراهين البراءة فسعدت وفرحت بالبقاء، وعندما تكون ضيفاً على شخصية مثل الأخ العزيز الكبير في الخلق والمقام"إدريس بن أحمد الطيري"ستعرف حق المعرفة معنى المواطنة المخلصة، والانتماء للأهل والأحباب، هذه الشخصية المتمردة على كل ما علق بزماننا الرديء من أوساخ، حافظت على عمق الأخلاق ونزاهة المقاصد وروعة البساطة والتواضع والبعد عن حب الذات والأنانية.
رأيت ومعي إخوة أعزاء بصحبة مضيفنا الأكرم"أبا أكرم"أجزاءً كثيرة من منطقة جازان، وصار بيننا وبين أنشودة الجنوب"صبيا"عشرة وماء وملح، تمسّحنا بعطور الفل والكادي وزهور الياسمين وعَطّرنا مسامعنا بتاريخها وحضارتها ورجال احتفوا بنا في رحلات وجلسات سمر، كنا نسأل بلهفة المشتاق وكانوا يجيبون بعمق المعرفة وثقافة المشهد، أخونا العزيز"أبا أكرم"وضع لنا برنامجاً دقيقاً وصارماً، يبدأ من بعد صلاة الفجر ويمتد حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، كان يريد أن نرى المنطقة التي عشقها، والمدينة التي أحبها، انطلقنا من بيش إلى صبيا، وفي منظر مهيب تجولنا في وادي لجب، هذا الأخدود الصخري يحكي لك قصة خلاف أو عدم انسجام كيميائي فرق بين الجسد الجبلي وأحدث وادياً عجيباً، توزعت في أركانه شلالات متدفقة بمياه عذبة، وأشجار ونباتات خرجت من رحم جبال صخرية، فسبحان الله الخالق العظيم، ولا يقل الجبل الأسود في مسماه، الأخضر بجماله الطبيعي المتوشح بالورود العطرية وأشجار الزيتون البري وأجوائه المعتدلة وأمطاره التي لا تغيب عنه فترات طويلة، ومررنا عن بعد بجبال الحشر المُتراصة على امتداد طويل وارتفاع شاهق في منظر يوحي للناظر بالحصون الحامية لمكتسبات المنطقة، وقال لنا أهل المنطقة الكرام إن هناك أيضاً جبال بني مال، وجبال الدائر في بني مالك، وجبال بلغازي وغيرها وكلها جبال تغطيها أشجار السدر والعرعر والزيتون والشجيرات العطرية الأخرى، وتتخللها الشلالات الطبيعية والبحيرات العذبة.
أما جبال فيفا التي تقع شرق مدينة صبيا فقد كان لها ضمن البرنامج زيارة وتجوال، جبال شاهقة تشعر وأنت تصعد إليها بحالة إقلاع طائرة، سلسلة جبال يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر حوالي سبعة آلاف قدم، لوحة خضراء تكسوها الأشجار المرتوية إلى أعلى أغصانها بمياه أمطار مستمرة غالباً في هطولها على مدار العام، معتدلة المناخ لا تتجاوز درجة حرارتها 25 درجة في شهر آب أغسطس اللهاب، نباتات عطرية ومدرجات زراعية دائرية ومساكن منتشرة في أرجائها في منظر، كنت إلى الأسبوع الماضي لا أعتقد أن أراه في وطننا العربي، إلا في جبال الشوف وبرمانا وبكفيا في لبنان، وجبال صلالة في عمان، ولكن جبال فيفا رائعة فاتنة ساحرة للعيون وعشاق الطبيعة الخلابة، وأكثر ما شدني عشق أهل فيفا لجبالها، سألت أحد شبابها عن تعاملهم مع صعوبتها وقسوتها، فقال لي الطريق الحلزوني الشاهق الذي يوصلني لمنزل أهلي في قمة الجبل أسير عليه بسهولة ومتعة، الصعوبة محصورة فقط في فراق هذه المنطقة التي عشقناها وبادلتنا محبةً وعطاء.
قضينا سويعات في هذه الجبال وتمنيت لو قضيت شهراً لإشباع الحواس والأحاسيس، ولأن رزق الله واسع وخيراته لا تُعد ولا تُحصى وهب هذه المنطقة العين الحارة التي تقع في وسط جبال بني مالك يقصدها الزائرون للتداوي بمياهها المعدنية الكبريتية، وهناك أودية رازان وخلب ورأس الطرف وغيرها الكثير، كما تنتشر بالمنطقة الشواطئ الساحرة، والمدن الأثرية، بعضها واضح للعيان والأخرى مغمورة بالرمال تنتظر رحلة الباحثين للحفر والتنقيب لإبراز قصصها ومعالمها الأثرية التاريخية، أما جزيرة فرسان فهي قصة آثرت أن أخصص لها زيارة خاصة عقدت العزم على التخطيط لها قريباً إن شاء الله.
لم أترك لنفسي خلال هذه الزيارة الفرصة للغرق في متاهات جدلية بل كان الفرح المؤجل، كشفه ما رأيته على أرض الواقع بعد قراءته وسماعه عن بعد، لم تلغِ هذه الطبيعة الساحرة بحثي وسؤالي عن مشاريع المستقبل، وعندما رأيت الأعمال الإنشائية في طريقها للبروز في جامعة جازان أو الجامعة الحلم، كما وصفها أحد مستشاريها، تسعة كيلو مترات مساحتها، والبحر جارها، والشاطئ سيكون متعتها ومتنفسها، وخطط لها أن تكون نقلة حضارية في التعليم العالي في المملكة، ونقلت فكري وتفكيري وأسئلتي واستفساراتي إلى حلم المدينة الاقتصادية بجازان، وعندما رأيت خريطة الحلم ترتسم على الأرض ورافعات بناء الأمل ماثلة للعيان خفق القلب بالرؤى فرحاً، وقلت في نفسي حقاً كشفت جازان عن ساقيها العلمي والاقتصادي، وعوداً على بدء وبعون الله وتوفيقه كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، هو تلك الشخصية التي أعادت اكتشاف منطقة جازان من جديد، بدأت برحلته الشهيرة"من كان لجازان"أعاد إليها جمال الروح ونور الحياة، وهو رعاه الله من حوّل حزن الصراخ إلى سعادة العقل وسلامة المنهج وحسن التدبير، الألسن تلهج له بالدعاء والعيون تسعد برؤاه، وفقه الله.
ولأن الزراعة هي بمثابة الجسد لأهل منطقة جازان، في الأسبوع المقبل إن شاء الله أنقل إليكم صورة أخرى عن الزراعة في المنطقة، همومها وشجونها وتطلعات أهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق