الشاعر كائنٌ نزقٌ، ولا يمكن أن يُرَتب هواجسه، ولا فوضاه، بل يزدادُ ارتباكاً عبر الزمن ويترامى في جسد القصيدةِ ملتاعاً ومغلولاً بخطاياه التي تسكنه أكثر مما ترتضيه، كلنا نتوجع لحال الشعراء.ولكننا نتباركُ بها ، فكل نصِّ شعري مختطفٌ من عليين هو في الحقيقةِ- مرآة مواربة تتفردُ بملامحنا المنسية، كل من لا يعرف ذاته يتكشَّف عندما يهيمُ بقصيدةٍ ما، أو يستمع لقول شعري، من هنا تكمن حساسية المتلقي ومن هنا تتجدد فوضى الشاعر أيضاً. لذلكَ أراد الشاعر أحمد القيسي عبر ديوانه (أرتب فوضى سكوني) أن يشي لنا ولذاته أولاً أن لحظة الفوضى عصيَّة على الروح وحميمة في آن، كل هذا التضاد لا يعني أنه مصادمة بين الذات والواقع، بل هو نبش وتجريد لحالاتٍ تتباين وتختبئ أيضاً، أرواحٌ شريرة تعبث بالكائن وأرواحٌ طيبة تعبث به كذلك، كل هذا العبث الذي يتوغل في الجسد ما هو إلا حياة ثانية بل أكثر تمرُّ بالشاعر تحديداً عبر أطيافٍ مرتبكة وإحساسٍ غريب ومخيلة فادحة، ولذلك أصبح الشاعرُ شاعراً، وتمايز عن غيره، وقد تبدو هذه الإحالة في نص (محطة):’ستشعر بتضاريس الفراغ الوعرة وستشم ذات ضجر لحظاته وما هي إلا محطاتك للعبور إليك’وفي نص (خربشات) :’ستفتش عنك أيها الغريب وتسأل:بأي الرياح تماهيت؟وتمضي على أقدام السؤال مهاجرا تتنكر لك الأرصفة/ وتتبرأ منك المسافات’بين النصين لا توجد مسافة فاصلة، هنالكَ حالة ملتبسة وزمن متشابه وأفعالٌ حائرة، كما لا يغيب الحِسُّ الدفين الذي يبني طقوساً في الذات، كما يهدمُ طقوساً أخرى سادتْ وبادتْ، وسيظل الرهانُ دوماً على الحراك والمتغير الذي نغفر له سوءة الأمل ونتحايل على أنفسنا كي نُجرَّب ونمارس ونتمـــــــاهى أيضاً. وفي نص (خربشات):’الرغبات تفر من بين أصابعي ومن كل الجهات التي أتوسطها الآن لا طعم لها أو لون أو رائحة كي أسند إليها هذا الملل’هذا نص مازوخي يلوي عنق الكلمات، ويستبدُّ بالمعنى، ولكنه في النهاية يأتي على سابقه من فراغ وعتمة حدَّ الضياع الذي يعلكُ قلب الشاعر. وفي نص(ميراث الذكرى):’ساعتها .. أعتصر الأيام دمعةهي إرثي من الذكرى وآخر ما تبقى من الأغنيات’هنا وقفة لا يمكن أن تستمر، ولا تتسمَّر، هذه الحالة الغامضة التي يشوبها الحزن إما أن يكون شاعرها متفائلاً لدرجة الخيبة أو خائبا لدرجة الانتحار ونسيان أن هنالكَ ضوءٌ ينفجر في عين الكونِ ذاتَ يأس . فما تجدي الذكرى إلا لم نكن مرتهنين لواقعٍ جديد أو غدٍ مخاتلٍ يمضي للهرب من زنزانة الفراغ ويرتبنا بعيداً عن الفوضى التي يمارسها القدر كما يمارس أحمد القيسي في كلماته. ربما أراد الشاعر أن يستفزنا بالفوضى وادِّعائه رتابة السكون على صدر الكلمات، فمرورٌ سريعٌ كهذا تكفيه الإشارة والتلويح إلى مستوى العزلة الكونية والإحساس بغبش الذكريات وذبول العادة وصرامة الوقت، يبدو ذلكَ في معجمه اللفظي الذي احتشدتْ به النصوص حيث تعددت كلمات مثل (الفراغ/الانتظار/التضاريس/الزمن /الذات/الدمعة /الملامح/الساعة/الغياب) ناهيك عن مرادفاتها وقد لا تغيب هذه المفردات عن باقي الشعراء أيضاً، فالجملة الشعرية لا تخلو من الخيبة والحزن عادة، ولكنها أيضاً- لا تخلو من (اللذة/الأمل/النرجسية/الميثولوجيا/الفحش/الغد/النبوءات) ولكنها غابتْ لدى أحمد، غابت كنص، وربما حضرتْ في عباراتٍ ما كانتْ مسحوقة تحت وطأة الملل أو معزولة وراء النص، إنني أتلقى النص ككتلة والديوان كروح واللحظة كشارةِ البدء والغواية كالسحاب والذات كالثرثرة. معظم النصوص تبدأ بجملة اسمية وهي تمثل ذروة العنفوان الشعري بينما النصوص التي تبدأ بجمل فعلية فإنها تتدرج إلى أن تصل المنتهى أو القمة، وهذه يقظة بال لدى الشاعر، لم يكن طوعاً للبنى اللفظية ولا منسياً في التخييل لدرجة التوهان، كانَ حاضراً في نصه رغم التعب، هنالك تعمية وانطفاءة وملل في بعض المقطوعاتِ ربما أرادها حَكَماً على ذاته، وسقفاً لتحولاته النفسية، الــ (ربما) هذه تفتح لنا سجالاتٍ نقديةٍ لا تنتهي، كما تفرض علينا كمتلقين أن نخضع في كهفِ التأويل ولا نلوذ بغير الكلمات بينما هنالك إيحاء وتداعيات يمكن استشفافها ومشافهتها وصناعة حوارية معها على أكثر من مستوي وأكثر من بعد، ولذلك يقول أحمد القيسي في نص (تحرر):’في كل اتجاهٍ يخدعني سراب الأبواب’…. فقط، نظرة ناعسة ونصف ابتسامة تكفي لاحتلالك تماما’هكذا يتحرر، وهكذا ينكفئ في قيده أيضاً، جميل جداً أن تراوح ذاتك لحظة الكتابة وتستعيدُ معمار المشيئات الخارجة عنك بأناملَ مخملية، كأنك لا تريد شيئاً منك، كأنك لا تريد التألق والتفاني أمام لحظتك المنكتبة على أوراق الياسمين، لذلك كله يكتب أحمد القيسي في مقاطع كثيرة ويستخدم (التسويف) هذه الــ (سوف) أيضا تشكل مفصلاً مهماً في تجربة الشاعر تزيدُ من فوضاه وتجعله بعيداً رغم اقترابِ أناهُ. في نصه النثري يمكن الرهان على المعنى المتداول في جميع النصوص ولا أعني بذلك التكرار ن ولكن من حق الشاعر أن يُقلَّبَ معانيه حدَّ الاحتراق، وأن ينسجم معها حدَّ الغياب، ولكن بعض النصوص جاءت سردية أكثر من اللازم مثل نص (هذيان الساعة الواحدة صبــــــــاحا) و(حرية أم جنون .. تلك التي تبوح للمرآة) و(ارتداد .. من حديث المرايا) ولهذا تركها الشاعر في مؤخرة كتابه ربما ليشي لنا أنه ضدَّ التجنيس، ولكنه مع التجانس الإبداعي، وقد نغفر له كل الفوضى عندما يعترف في آخر جميلةٍ شعرية تركها في ديوانه منذورة للعنات وفاتحة للأمل، إذ يقول ‘… ربما ستتسلل إليَّ المسرَّة’ رغم أني أكره سين التسويف يا أحمد إلا أنك توبخنا أكثر مما يجب بما عندما تُحيلنا إليك بنبرةٍ متناهية، وكأنك تهربُ منا، من قرَّاءٍ يضعون التمائم على ياقة القصيدةِ كي لا تبوح إلا للشعراء، فمن لا يهذي في حضرة الشاعر لن تغسله الأزمنة بالجراحات ولن تتكـــــــثفَ على رئتيه خمرة الندامى.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
مواضيعنا الجديدة
هكذا يبدو (الحكير)
بات من الضروري جذب الشباب للانخراط في المهن المختلفة كون المستقبل للفئة العاملة المهنية المؤهلة على استيعاب مقومات التقنية و أدواتها، فجميع...

-
25-10-2010, 05:07 PM ماذا أقول ومهجتي تتألم? والشوق يجرح خافقي لا يسأم أفنيت عمري في هواك ضحية والله أدرى بالنفوس وأعلم أشقيت قلبي والهي...
-
ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻓﺮّﺡ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ ﺷﻌﺒﻪ "بـﺳﻴﻒ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ" ﻭﺧﺎﺻﺔ "بﺻﻮﺍﺭﻳﺦ رﻳﺎﺡ الﺸﺮﻕ" ﺍﻟﺘﻲ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﺣﻤﻞ ﺍﻟﻤﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﻨﻮﻭﻱ ﻋﻠﻰ ﻣﺪﻯ ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق